العواصف الترابية تلوح في الأفق: التصدي لتبعات تغيُر المناخ على العراق والحاجة المُلِحة لاستجابة استباقية
د. حيدر محمد عبد الحميد
أستاذ مساعد في جامعة بغداد، قسم الهندسة البيئية
باتت آثار تغير المناخ على مختلف قطاعات العراق جليةً للجميع، وألقت بظلالها على الحياة العامة، بعد أن تفاقمت من جراء تقلب ظروف البلد وبنيَته التحتية المتهالكة. تشير التوقعات المستندة إلى نماذج مناخية رقمية وطنية إلى أن درجات الحرارة في العراق ارتفعت ارتفاعاً مطرداً منذ عام 2007، بدءاً من 0.9 درجة مئوية. وإذا استمر هذا الصعود فقد يصل معدل الارتفاع إلى 3.5 درجة مئوية في عام 2100، وهو وضع حرج في بلد تتجاوز فيه درجات الحرارة عتبة الـ50 درجة مئوية في بعض أيام الصيف. تتوقع الهيئة العامة للأنواء الجوية والرصد الزلزالي أن تشهد معدلات هطول الأمطار السنوية انخفاضاً كبيراً ومستمراً حتى تصل إلى مستويات متدنيةً بنسبة 30٪ بحلول عام 2100، أي أقل من أي معدل سجلته على طوال الأربعين عام بين 1938-1978. ووفقاً للهيئة فإن هذا يفسر تزايد حدوث الظواهر المناخية القاسية مثل موجات الحر والجفاف وهطول الأمطار الغزيرة، والتي لها تأثير مضاعف، فنجد على سبيل المثال أن موجات الجفاف الحادة قد أدت إلى تمدد التصحر واجتياحه الأراضي الخضراء. والتصحر بدوره تسبب في انتشار الغبار وهبوب عواصف ترابيةً كثيفةً طويلة الأمد ومتواترة، زادت بدورها من أعداد المصابين بالربو في العراق، وخاصة بين الأطفال وكبار السن، كما زادت من تفشي الأمراض والسرطانات الأخرى.
أما نهرياً، أدى تغير المناخ إلى تفاقم مشكلة شح المياه في نهري دجلة والفرات وروافدهما. فقد أشارت تقديرات البنك الدولي لعام 2011 إلى وجود شح وندرة شديدة في الموارد المتجددة للمياه في العراق مقارنة بحاجته الفعلية خلال الفترة من عام 2000 إلى 2009. من المتوقع أن يتصاعد العجز المائي إلى 37٪ من عام 2020 إلى 2030، وأن يقفز إلى 51٪ من عام 2040 إلى عام 2050. وهذا يفسر سبب الانهيار الكبير في القطاع الزراعي، الذي كان له ضرر واضح على الإنتاج الزراعي للعراق؛ وبالتالي أضعف اقتصاده وأنظمته الطبيعية وتنوعه البيولوجي، وجرده من غطائه النباتي.
أما بحرياً، فإن ارتفاع مستويات سطح البحر ودرجة حرارة مياهه يهددان المناطق الساحلية المطلة على الخليج العربي، وخاصة في محافظة البصرة؛ وبالتالي فإن الشعاب المرجانية لهذه السواحل والتنوع البيولوجي في البيئة البحرية مهددان بالزوال. ويمتد تأثير هذا ليصيب قطاع الطاقة، فالبصرة هي "سلة العراق" والمنبع الأكبر لثروته النفطية، وتضررها يعني تضرر اقتصاد البلد وتعرض استقراره للخطر، مما سيُصَعِبُ تحقيق التنمية المستدامة في جميع قطاعاته الحيوية ويعيق تطلعاته للتقدم الاقتصادي. تتطلب كل هذه القضايا المُجتَمِعَة والمتشابكة تدخلاً سريعاً وحلولاً قائمة على الطبيعة لإنقاذ هذه الأنظمة الطبيعية، لأنها كانت ولا تزال المساهم الأول في تحقيق التوازن والاستقرار.
وفقاً للتقرير السادس لتوقعات البيئة العالمية لغرب آسيا (GEO-6)، أدى تدهور مناخ العراق والعالم، وخاصة في العقود العشرة الماضية، إلى تفاقم هشاشة الوضع على المستوى الوطني، حتى صُنف العراق خامس أكثر بلد في العالم تأثراً بشحة المياه والغذاء والحر الشديد والمشاكل الصحية المرتبطة بذلك.
إنّ العراق بأمس الحاجة لوضع وتنفيذ خطة عمل لتدابير التكيف، يعالج بها آثار تغيُر المناخ على القطاعات المهمة. وينبغي أن تتماشى هذه الخطة مع الاستراتيجيات الوطنية والقطاعية القائمة، مثل الاستراتيجيات الوطنية للمياه والزراعة والتنوع البيولوجي، بالإضافة إلى الإطار الوطني للإدارة المتكاملة لمخاطر الجفاف.
على العراق أن يسعى إلى تعزيز قدرته الوطنية على مواجهة آثار تغير المناخ عبر مختلف القطاعات وعلى مختلف المستويات، مع التركيز على القطاعات الأكثر ضعفاً وتأثراً، بما في ذلك ما يلي:
موارد المياه
يجب أن يتوفر جهد للتوجه نحو الاستثمار المستدام في المياه الجوفية للحفاظ عليها للأجيال القادمة من خلال حصاد المياه وتقليل فقدانها. يعد تطبيق التقنيات الحديثة لمراقبة خزانات المياه الجوفية وتنظيمها وتقييم جودتها أمراً ضرورياً للحفاظ على توازن درجة الحموضة في هذه المياه. كما يتوجب تحلية مياه البحر ومياه الأنهار، إذا لزم الأمر، من خلال استخدام مصادر الطاقة المتجددة لتشغيل محطات التحلية وتطوير تقنيات جديدة لهذا الغرض. وعلاوة على ذلك، ينبغي جمع المياه في مواسم الوفرة وتوزيعها في مواسم الجفاف عن طريق بناء العديد من السدود، والتي ستحفاظ على تجديد واستدامة طبقات الأرض الحاملة للمياه الجوفية وتحد من خطر الفيضانات.
قطاع الزراعة
أما في جانب الزراعة فيجب توجيه الجهود نحو الحد من تدهور التربة وانحسار المراعي والغطاء النباتي. ويتحقق هذا بإعادة تأهيل هذه النظم البيئية، وتحسين ممارسات إدارة الأراضي واعتماد الزراعة الذكية والمحافِظة، خاصة في مجال الزراعة والغابات. بالإضافة إلى ذلك، ينبغي تحديث وتطوير الممارسات الزراعية وطرق تربية الماشية كي تصمد في وجه التحديات التي يفرضها تغير المناخ وتتكيف معها. ومن الضروري إنشاء البيوت الزجاجية والمزارع البلاستيكية والمختبرات لاستنساخ الأنسجة من الأصناف المقاومة لتغير المناخ.
إن الهدف الشامل من هذه الخطوات هو زيادة صمود القطاع الزراعي في مواجهة تغير المناخ والتكيف معه. وسيؤدي ذلك إلى حماية وتعزيز الأمن الغذائي للبلد، والحد من تدهور تربته، وتعظيم إيراداته من الزراعة، وتحقيق التنوع الاقتصادي في موارده؛ وبالتالي فسوف يحد من الفقر، ويساهم في دعم المرأة الريفية من خلال استخدام التقنيات والتكنلوجيا الحديثة في خطوة نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
قطاع الصحة
يجب تعزيز القطاع الصحي للوقاية من الأمراض الناجمة عن تغير المناخ. ويمكن إنجاز بذلك من خلال إعادة تأهيل المجتمعات الفقيرة والمعرضة للمخاطر الصحية واستعادة قدرتها على الصمود والتكيف مع الآثار الضارة لتغير المناخ.
بالإضافة إلى ذلك، علينا أن نرفع مستوى الوعي الصحي بين المجتمعات المعرضة للأمراض المتعلقة بتغير المناخ وأن ندعم برامج صحة الأسرة، ونكافح الأمراض المتوطنة والوبائية الناجمة عن تغير المناخ.
الهدف الشامل هو زيادة مرونة القطاع الصحي لمواجهة تغير المناخ. وسيتم ذلك من خلال توفير الدعم الضروري والشامل للمؤسسات الصحية والبنية التحتية لتعزيز الاستجابة الوطنية وإعادة تأهيل المجتمعات الضعيفة وبناء قدرتها على الصمود والتكيف، مما سيسهم في أهداف التنمية المستدامة.
الأنظمة الطبيعية والغابات
يجب توجيه الجهود لزيادة عدد المحميات الطبيعية، مع مراعاة تنوعها، للحفاظ على أكبر عدد ممكن من الأنواع المهددة بالانقراض والنظم البيئية الحساسة. ولا يتم ذلك بدون تفعيل القوانين واللوائح الصارمة لضمان حمايتها. أما الغابات فهي بحاجةٍ إلى إعادة تأهيل وتوسيع، وإلى إدارةٍ مستدامة لتنجز دورها في حماية البيئة وعزل الكربون. ومن المهم أن نحافظ على النظم البيئية التي تقدم خدمات بيئية ونستخدم بعضها للوقاية من المخاطر والكوارث البيئية. علاوة على ذلك، يجب أن يخصص جهد علمي للعمل على التحسين الوراثي للأنواع النباتية المنتجة لأصناف ذات قدرة عالية على تحمل الظروف القاسية.
قطاع الصرف الصحي والنفايات
يجب معالجة مياه الصرف الصحي وإعادة تدويرها لاستخدامها في القطاع الزراعي للري المقيد وغير المقيد من خلال المعالجة الثلاثية واستخدامها أيضاً في قطاعي الصناعة والطاقة. كما ينبغي إنشاء محطات نموذجية لمعالجة مياه الصرف الصحي في القرى والمجتمعات الريفية لإنتاج المياه المناسبة للري، وكذلك محطات متنقلة لمعالجة النفايات العضوية في الموقع لتوليد الغاز الحيوي والأسمدة العضوية. كما علينا أن ندعم مشاريع محطات معالجة مياه الصرف الصناعي للمنشآت الصناعية الكبيرة والمتوسطة لتوفير مصادر مياه بديلة وغير تقليدية والحد من تلوث مياه الأنهر. كما يتحتم إعادة تأهيل قطاع الصرف الصحي لتعزيز مرونة وصمود قطاع المياه في البلد .
الخاتمة
يجب النظر إلى الإجراءات المطلوبة وتدابير واستراتيجيات مكافحة تغير المناخ على أنها مسؤولية اجتماعية وحكومية، حيث أن الآثار الضارة لتغير المناخ ستؤثر على الحياة اليومية للأفراد والمجتمعات وجميع مستويات الحكومة.