يحيى سامي
مستشار مراقبة وتقييم، أخصائي إدارة، مدرب مستقل ومهندس
هناك ميل واسع في العراق إلى تفضيل العمل في القطاع العام، وهذه مشكلة تحمل في طياتها الكثير من التداعيات الاقتصادية. تكلف فاتورة رواتب القطاع العام العراق جزءاً كبيراً من الميزانية الوطنية السنوية. يقف هذا الحمل الثقيل، مصحوباً بالفساد المستشري لحدٍ خطير، عقبةً كبيرة أمام عجلة التنمية الاقتصادية التي تشتد الحاجة إليها في العراق. ورغم كل هذه الضغوط الاقتصادية التي يسببها التوظيف في القطاع العام، ما تزال الوظيفة فيه حلم الشباب العراقي. ما الذي يدفع بعض الشباب إلى الاستعانة بالـ"واسطات" ودفعُ رُشىً بآلاف الدولارات للحصول على وظيفة عامة أجرها أقل بكثير؟ ما هي الأسباب الجذرية الكامنة وراء جاذبية التوظيف في القطاع العام؟ تتعدد الأسباب التي أعطت التوظيف في القطاع العام اليد العليا على القطاع الخاص. منها، على سبيل المثال لا الحصر، الأمان الوظيفي والمعاش التقاعدي والحد الأدنى من المسؤوليات الوظيفية.
الأمان الوظيفي
يوفر القطاع العام أماناً وظيفياً لا يضارعه فيه نظيره الخاص، لأنه بمجرد أن يتوظف المرء في القطاع العام، فقد توظف مدى الحياة. من المعروف أنه من النادر جداً أن يُفصل موظف في القطاع العام بسبب أدائه فقط. يجب أن تكون أسباب إقالة الموظف اكبر بكثير من التقصير في الأداء، ويستغرق الأمر إجراءً بيروقراطياً طويلاً، ومن الوارد أن تُسقًط الإقالة أو يتم التستر عليها والتغاضي عنها عن طريق الفساد والعلاقات.
من ناحية أخرى، على الرغم من أن التوظيف في القطاع الخاص قد يكون مجزياً أكثر من الناحية المالية منه في القطاع العام، فإنه لا يمكن أن ينافس الأمان الوظيفي الذي يوفره القطاع العام لا في سراءه ولا ضراءه. يعتمد الأمان الوظيفي في القطاع الخاص على المؤسسة ونظامها الداخلي للإدارة. لكن على الجانب الآخر، فمن الوارد أن يجد موظفو القطاع الخاص أنفسهم عاطلين عن العمل في أي لحظة وغالباً بدون فترة إشعار. وقد تُعزى هذه الظروف إلى عدم وجود قوانين وأنظمة عمل، والتي حتى إن وُجِدتْ، فإنها بالكاد تطبق. وضعت العديد من هذه القوانين لبلد اشتراكي غير ما هو عليه العراق اليوم. وفي بعض الحالات تكون هناك نسبة من التحيز في القانون لصاحب العمل مقابل الموظف. علاوة على ذلك، تفتقر هذه القوانين للدعم الحكومي لموظفي القطاع الخاص فيما يتعلق بإنفاذ القوانين؛ بينما نجد أن الحكومات في البلدان الأخرى تعين محامين للتعامل مع شكاوى موظفي القطاع الخاص. أما في العراق، فيعمل العديد من العراقيين في القطاع الخاص دون حتى عقدٍ يضمن حقوقهم. ومع ذلك فإن هذه القضية تعود إلى نقص المعرفة بين الموظفين حول ضرورة وجود عقد وحقوق العمل الأساسية الأخرى.
خطط التقاعد
واحدة من أكبر حوافز التوظيف في القطاع العام هي خطط التقاعد. ليست هذه الخطط مثالية بالطبع، لكنها واقعٌ ينعم به العديد من المتقاعدين وآفاق مغريةُ للعديد من الموظفين الحاليين. إنها أكثر من شبكة أمان يمكن للمتقاعد العراقي العادي الاعتماد عليها لضمان حياة كريمة بعد التقاعد.
تكاد خطط المعاشات التقاعدية داخل القطاع الخاص أن تكون معدومة، وفي أحسن الأحوال واهية. كما سبق ذكره، في كثير من الحالات، ليس لدى موظفي القطاع الخاص عقود، وهذا بحد ذاته يعيق أيَّ إمكانية قانونية للحصول على معاش تقاعدي لأنهم لن يتم تسجيلهم في نظام الضمان الاجتماعي. في بعض الأحيان قد يرى الموظف اقتطاعات بعض الضرائب والضمان الاجتماعي من راتبه دون أي مزايا عقد عمل؛ قد يكون هذا مؤشراً على أنه قد يكون هناك بعض التلاعب من قبل صاحب العمل. وفقاً لقوانين العمل الحالية، إذا كان الموظف مسجلاً في نظام الضمان الاجتماعي للقطاع الخاص، يجب أن يكون هناك خصم شهري بنسبة 5٪ من راتبه الاسمي.
يجب على صاحب العمل أيضاً دفع ضمان اجتماعي بنسبة 12٪ من الراتب الاسمي الشهري للموظف. ويمكن أن تتراكم هذا النسبة إلى 17٪ من الراتب الاسمي الذي يحق للموظف الحصول عليه إذا كان عاطلاً عن العمل لمدة لا تقل عن عام إذا قدم الموظف طلباً بذلك لإدارة الضمان الاجتماعي. لكن في الواقع، النسبة التي لا تُدفع بالكامل تبلغ 8٪ فقط إلى 8.5٪ من المبلغ المقتطع 17٪. إما أن يتم دفع المبلغ دفعة واحدة أو على أساس شهري. يبقى هذا المبلغ، سواء دُفِعَ دفعة واحدة أو على دفعات شهرية، غير مجدٍ مالياً لأي فرد، ناهيك عن رب أسرة وصاحب مسؤوليات.
الحد الأدنى من المسؤوليات الوظيفية
يقدم القطاع العام شيئاً لا يستطيع القطاع الخاص تحمله، وهو الحد الأدنى من الجهد المطلوب للوظيفة. يمتاز التوظيف في القطاع العام بمستوى عالٍ من التَسوِيف، وهناك اعتقاد سائد تم الاستشهاد به في بحوث تتناول التوظيف في القطاع العام في العراق مفاده أن متوسط العمل الفعلي لموظفي القطاع العام يبلغ 17 دقيقة في اليوم. من المرجح أن يكون الرقم مبالغاً فيه، ومع ذلك، فإن حقيقة أنه اعتقاد يصدقه البعض وتم الاستشهاد به هو دليل على قصور التوظيف العام. بالإضافة إلى ذلك، يتمتع موظف القطاع العام بالعديد من أيام العطل الرسمية والإجازات الشخصية مدفوعة الأجر. كما أن التوظيف العام لا يوفر أي تطوير وظيفي لموظفيه. لا توجد مهارات ومعرفة يمكن اكتسابها لتحسين أدائهم، ولأن الوظيفة مؤمنة تقريباً مدى الحياة، تنتفي الحاجة للقيام بذلك. قد يكون هذا السبب وحده وراء العامل الأكثر مساهمة في الـ17 دقيقة المقدرة للإنتاجية وتصور الناس بعدم كفاءة القطاع العام.
إن العامل الفاصل بين القطاع الخاص والقطاع العام هو أن القطاع الخاص سيشرط على موظفيه أن يكونوا منتجين، وأن يمتلكوا مهارات ويستمرون بتطويرها وزيادتها، وألَّا يتمتعون، أحياناً بشكل مبالغ به، بالعطلات والاستراحات. ويتحول أداء الموظف في القطاع الخاص في النهاية إلى أرباح للشركة، وعندما لا يقوم الموظف بعمله تخسر الشركة المال. لذلك كلما كان الموظف أكثر إنتاجية، زادت قدرته على اكتساب مهارات جديدة والارتقاء بنفسه، وأمَّن على وظيفته أكثر. أضف لذلك أن حقيقة كون أيام العطل الرسمية أقل لموظف القطاع الخاص وأيام العمل في الاسبوع غالباً ما تكون أكثر من خمسة أيام فقط، ستجعله بلا شك أكثر إنتاجية من نظيره في القطاع العام.
المظالم المشتركة بين التوظيف في القطاعين العام والخاص
على الرغم من الاختلافات العديدة بين التوظيف في القطاعين العام والخاص، إلا أن هناك نقاطاً مشتركةً بينهما تحتاج إلى تحسين. تدار بعض كيانات القطاع الخاص من خلال المحسوبية والرشوة لتأمين العمل. وتتجاهل إدارات هذه المؤسسات المهارات أو المعرفة، لأن بعضها تدار من قبل عائلة تفضل توظيف أقارب غير أكفاء بدلاً من موظفين مهرة. لا يختلف هذا كثيراً عن القطاع العام الذي تمارس فيه أساليب مماثلة. كلاهما ينكر تكافؤ الفرص للباحثين عن عمل.
ما الذي يجب فعله؟
تمثل القضايا التي تناولناها الأسباب الرئيسية التي تجعل التوظيف العام يبدو خيار توظيف أكثر جاذبية للعراقيين. هذه مشكلة حقيقية، حيث أن الطلب المتزايد على الطاقة الخضراء المتجددة والمستدامة والنظيفة في جميع أنحاء العالم يؤدي إلى انخفاض الطلب على الوقود الأحفوري. يعتمد العراق في 95٪ من إيراداته على تصدير الوقود الأحفوري. حقيقة أن ميزانية أجور القطاع العام تشكل جزءاً كبيراً من الميزانية الوطنية السنوية لا يمكن أن تكون مستدامة للنمو الاقتصادي للبلد إذا حدث أي شيء لأسعار النفط. لذلك، من المهم الفهم أن إحدى أهم الخطوات التي يمكن أن يتخذها العراق لخلق اقتصاد أفضل هي التوجه نحو القطاع الخاص والقيام بما يلزم لجعل القطاع الخاص خياراً جذاباً ومرغوباً أكثر. تحتاج الحكومة إلى تطبيق القواعد واللوائح الحالية لقوانين العمل لتحقق هذه النتائج. بالإضافة إلى سن قوانين جديدة ومواتية للموظفين تجعل العمل في القطاع الخاص أكثر أماناً واستدامة. سوف يؤدي تمكين القطاع الخاص إلى تحقيق نتائج في جميع المجالات، وليس لموظفيه فقط. وستكون الآثار كبيرة وواسعة النطاق في جميع أنحاء الاقتصاد وستساعد في الحد، وفي الظروف المثالية، في القضاء على مشكلة البطالة.
إن معالجة هذه المشكلة أمر مُلح للغاية، ولا يمكن وضعها على نار هادئة بعد الآن. لا يمكن الحفاظ على الطبقة الوسطى العراقية إذا لم يحدث التوجه نحو تمكين القطاع الخاص وموظفي القطاع الخاص في أقرب وقت ممكن. والتخطيط لإيجاد حلول لهذه المشكلة وتنفيذ الخطط فعلياً أمرٌ جوهري لاقتصاد صحي. وبدوره سيؤدي الاقتصاد الذي يركز على تجديد وتأهيل الصناعة والزراعة إلى خلق المزيد من فرص العمل، مما يؤدي إلى تدفق نقدي داخلي أفضل والمزيد من الاستقرار المالي الداخلي. إن إيجاد قطاع خاص سليم يخضع للمساءلة أمام المساهمين والناس وموظفيه هو المساهم الرئيسي في خلق اقتصاد سليم.