معضلة البلاد المُتَّكِلَة على الاستيراد: لماذا العراق ليس على رادار عمالقة الشحن والتسوق الالكتروني

عيسى محمد

محرر، بزنس لاندسكيب


أدى الاعتماد على النفط في العراق الى إهمال العديد من الصناعات الأخرى، مما حول السوق العراقية الى سوق معتمدةٍ على الاستيراد. وعلى الرغم من النطاق الواسع من المنتجات المستوردة المتاحة على رفوف المتاجر، ما تزال العديد من المنتجات مفقودة رغم الطلب الكبير عليها حالياً. أدى تغلغل الإنترنت في حياتنا وازدياد عدد الشباب البارعين في أمور التكنولوجيا، والطلب المتزايد على المزيد من المنتجات غير المتاحة إلى خلق إمكانات سوقية غير مستغلة للعديد من الشركات وخاصة شركات التجارة الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي للتجارة الإلكترونية، للاستيراد من اللاعبين الدوليين في التجارة الإلكترونية الذين غضوا الطرف عن فرص السوق في العراق ولا يشحنون إلى العراق حتى يومنا هذا.

وقد استفادت العديد من الشركات من هذه الفرصة التي أدت إلى ظهور منصات تجارة إلكترونية متخصصة مثل بيور بلاتفورم (Pure Platform) وأوردري (Orderii) وسما (Sama)، والتي تعمل بشكل صريح كوسيط بين العملاء ومنصات التجارة الإلكترونية الدولية مثل أمازون (Amazon) وإيباي (eBay) وغيرها.


حصل في الآونة الأخيرة توسع في السوق التركية ومنصات التجارة الإلكترونية الشهيرة مثل ترينديول (Trendyol)، ولعل السبب خلف هذا التوسع هو النطاق الهائل من المنتجات والأسعار المعقولة نسبياً مقارنة بالسوق العراقية، بالإضافة إلى الموقع الجغرافي للدولة التي خفضت عدد أيام الشحن. كما وسعت منصات التجارة الإلكترونية العراقية الأخرى، مثل مسواك (Miswag)، عملياتها من تقديم منتجات من التجار في السوق العراقية إلى الطلب من ترينديول.

وهذا يشير إلى وجود فرصة كبيرة للاعبين الدوليين لتوسيع عملياتهم إلى العراق، سواء من ناحية توفر الخدمات اللوجستية أو المخازن. لكن يبقى السؤال: لماذا العراق ليس في حسابات هؤلاء اللاعبين الدوليين الكبار.


وقد أجبر هذا الإدراك بزنس لاندسكيب على التعمق في القضية لفهم سبب عدم ملاءمة الشحن إلى العراق للتجارة الإلكترونية الدولية وكيف تعمل السوق العراقية على حل هذه المشكلات. لقد قابلنا السيد شاكر عياد، المؤسس المشارك والرئيس التنفيذي لشركة أوردري، وهي شركة تقدم حلول لوجستية وتكنولوجيا مالية للعملاء الذين يرغبون في الشراء من البائعين الدوليين من خلال التعامل مع الدفع ولوجستيات الشحن، ليزودنا بنظرة ثاقبة في الأعمال الداخلية للشركات العراقية لمعالجة هذه القضايا. 


لقد حددنا بعض المحاور الرئيسية التي انبثقت منها المشكلة، ونتج عنها عدم وجود العراق على رادار اللاعبين الدوليين. الأسباب الجذرية هي كما يلي: 


  • الاعتماد على النقد

لا يزال الاعتماد على النقد في العراق أحد الأسباب الرئيسية التي تعيق نمو العديد من الشركات. هذا الاعتماد متجذر في عدم ثقة المواطنين في النظام المصرفي إلى جانب الافتقار إلى إمكانية الوصول إلى المنتجات المالية وتوافرها. وبحسب البنك الدولي، لا يوجد سوى أربعة فروع مصرفية لكل 100 ألف شخص في البلد، مقارنة بضعف هذا الرقم في الإمارات و14 فرعاً في الأردن. بينما يبلغ عدد أجهزة الصراف الآلي في العراق لكل 100 ألف نسمة 5.35 فقط مقارنة بستة أضعاف هذا الرقم في الأردن وعشرة أضعافه في الإمارات. لذلك، على الرغم من ظهور العديد من المحافظ الرقمية وزيادة إصدار واستخدام البطاقات المصرفية، ما تزال طرق الدفع عبر الإنترنت في العراق محدودة والدفع نقداُ عند الاستلام هو وسيلة الدفع الأكثر تفضيلاً. وقد أدى ذلك إلى تحويل منصات التجارة الإلكترونية، والتوصيل إلى الوجهة الأخيرة، وشركات الشحن إلى شركات لجمع النقود تتعامل مع مبالغ نقدية غير معقولة. وقد تكون هذه هي المشكلة الرئيسية وراء تردد اللاعبين الدوليين في دخول السوق العراقية. 


  • القضايا التشريعية والمخالفات الجمركية

لا تخضع الجمارك في العراق حالياً للتنظيم الجيد ولا تتبع قائمة معينة، مما يعني أنه يتم في بعض الأحيان فرض ضرائب على العناصر على هوى الضابط المسؤول. أخبرنا السيد شاكر أنهم مرةً شحنوا عنصراً ما تم تخليصه واستلامه مرة واحدة من دون أية ضرائب، ولكن عندما شحنوه ذاته للمرة الثانية، فُرِضت عليه ضريبة جمركية. تسبب هذه التناقضات تحدياً لشركات النقل، حيث لا يمكنهم إبلاغ عملائهم بالضرائب المتوقعة بمجرد وصول شحناتهم. لذلك، تُضَمَّنُ العديد من شركات النقل بيان إخلاء مسؤولية من الضرائب وتناقضاتها. قد لا يُسمح لبعض العناصر التي يمكن أن تدخل اليوم وبكل بسهولة، أن تدخل غداً.

في نفس الوقت، يتم تحديد معدل الضرائب حسب الفاتورة التي تأتي مع العنصر. ووفقاً للسيد شاكر، فإن "الضريبة تعتمد على الفاتورة. فكلما ارتفعت القيمة، ارتفع السعر". 

بالإضافة لذلك، فإن الشركة المناولة في بغداد لديها عمليات بيروقراطية مفرطة وساعات عمل محدودة لخمسة أيام في الأسبوع. نظراً للعدد الكبير من الشحنات التي يتم طلبها لتلبية احتياجات السوق العراقية، فإن هذه المشكلات تعيق نمو سوق المواد المستوردة. لقد أصبح التخليص الجمركي الخطوة الأكثر استهلاكاً للوقت في عملية الشحن. 


  • الفحص 

يصبح الوقت الذي يستهلكه التخليص الجمركي عادةً أكثر وضوحاً في حالة ما يسمى بـ"البضائع الخطرة"، مثل بطاريات الليثيوم والبخاخات والدهانات والعطور. عادة ما يتم اختبار هذه العناصر ومن المرجح أن يكون تخليصها أكثر صعوبة.

على عكس أربيل التي تقع مختبرات الفحص فيها في داخل المطار، تقع مختبرات الفحص في بغداد في وسط المدينة، مما يجعل عملية التخليص تستغرق حوالي أسبوع حتى تعود نتائج الفحص. أما مع أوردري، فقد ذكر السيد شاكر أن شركتهم تتعامل مع تلك الأنواع من الطلبات التي تحتوي على بضائع خطرة على النحو التالي: "نلغي هذه العناصر". البضائع الخطرة لها مجموعة القواعد واللوائح الخاصة بها، هذا لا يجعلها غير قابلة للإدخال، ولكن صعبة التخليص للغاية". هذا يحد دخول مجموعة كبيرة جداً من المنتجات التي يمكن أن تكون ذات قيمة للمستهلك العراقي. 


  • النقل

هناك مشكلة أخرى تتمثل في اختيار المدينة التي ستستقبل الشحنات. غالبا ما تكون العملية أكثر سلاسة، والقواعد أقل غموضاً في إقليم كردستان. لذا فإن شركات النقل تدرك جيداً ما يمكن توقعه هناك.

الأسعار بالكيلوغرام أرخص بنسبة 25٪، والعملية أسرع نظراً لأن مرافق المطار هي المسؤولة عن جميع جوانب لوجستيات الشحن والمناولة والتخليص الجمركي والفحص. لكن العائق هو النقل البري من اربيل الى بغداد. معظم الطرق غير صالحة وخطيرة من حيث البنية التحتية وكلفة النقل عالية. هناك أيضاً مشكلة نقاط التفتيش على 'الحدود' المحلية بين المُدُن. يمكن لنقاط التفتيش هذه مصادرة البضائع أو تأخير الشحنات. بالإضافة إلى حقيقة أن السوق أكبر والطلب أعلى في بغداد. لذلك، تختار العديد من الشركات بغداد مركزاً للشحن على الرغم من الراحة التي توفرها أربيل.



تردد الشركات العالمية في الشحن إلى العراق

الآن بعد أن حددنا الجانب المحلي من المشكلة، أردنا التحقيق في ما يعيق السوق الدولية من الشحن إلى العراق. نظراً لأن السوق الدولية أصبحت معولمة كما كانت دائماً، فلماذا لا يزال العراق غير موجود على الخريطة؟ لقد اتصلنا ببعض أشهر شركات التجارة الإلكترونية الدولية والإقليمية لمحاولة الاستماع إلى جانبهم من القصة. 


أخبرتنا منصة التجارة الإلكترونية الأبرز في العالم، أمازون، من خلال ممثل خدمة العملاء، أنه "إذا تم بيع العنصر من قبل البائع، فإن البائع هو من سيحدد مكان الشحن." يتم شحن بعض المنتجات التي تحمل الوسم "مشحونة ومُباعة من قبل أمازون" مباشرة من موردينا إلى عملائنا. يتعذر أحياناً على الموردين الشحن الى خارج الولايات الـ48 المتحدة المتجاورة". وبعد إلحاحٍ منا على أمازون لمعرفة سبب عدم شحن مورديها إلى العراق، لم يكن لدى أمازون إجابة. حاولنا الاستفسار عن الأسباب من التجار أنفسهم ولكن لم نجد إجابة مقنعة. يمكن أن يكون السبب أن غالبية هؤلاء التجار يعتمدون على شركات لوجستية معينة لا تتحمل التكلفة والمخاطر التي تنطوي على الشحن إلى العراق وليست على دراية جيدة بإمكانيات السوق هناك.


أما بالنسبة للعديد من موردي أمازون، فقد امتنعوا أيضاً عن الشحن إلى العراق لأن تغطية الممرات التجارية الخاصة بهم قد استثنت العراق، وليس لديهم وكلاء شحن موجودون في البلاد. وهذا يشمل العديد من الشركات الكبيرة مثل فريتوس (Freightos) و شيبكو (Shipkoo) و يونيكارغو (Unicargo) و فليكسبورت (Flexport).


تواجه منصات التجارة الإلكترونية الكبيرة الأخرى مشكلة مماثلة، حيث لا تقوم شركات الشحن الدولية، وهي الخط الذي يربط بين العملاء والتجار، بالشحن إلى العراق. هذا هو الحال مع إيباي، ثاني أكبر منصة للتجارة الإلكترونية في الولايات المتحدة، والتي أخبرت بزنس لاندسكيب أن "العراق ليس على قائمة البلدان المؤهلة للشحن العالمي حالياً. لكن ما يزال من الممكن شحن العناصر إلى العراق باستخدام خدمات دولية أخرى". 


من ناحية أخرى، فإن شركة إتسي (Etsy)، وهي شركة للتجارة الإلكترونية تركز على المنتجات المصنوعة يدوياً أو العتيقة ومستلزمات الحرف اليدوية، تعتمد بشكل كامل على البائع بدلاً من الشركة نفسها. إذا أراد البائع الشحن إلى العراق، فعليه إدراج أهلية العراق على الموقع الإلكتروني والتعامل مع لوجستيات الشحن بنفسه. 


في الآونة الأخيرة، اكتسبت المنتجات من منصة التجارة الإلكترونية الصينية شي-إن (Shein) شعبية كبيرة في العراق، وكان العديد من المؤثرين العراقيين في التوجهات الرائجة يروجون لها. إلا أن موقع شي-إن لا يشحن إلى العراق ويعزو ذلك لأسباب لوجستية، ويتطلع إلى تطوير قنوات شحن جديدة للوصول إلى المزيد من البلدان. استغلت العديد من متاجر إنستغرام العراقية هذه الفرصة لتقوم بدور الوسيط بين العملاء العراقيين وتجار شي-إن.


على المستوى الإقليمي، تواصلنا مع بعض أكبر شركات التجارة الإلكترونية في الشرق الأوسط فيما يتعلق بنفس المشكلة. شركة نون دوت كوم (Noon.com)، تعمل وتسلم شركة التجارة الإلكترونية الإماراتية فقط للعملاء في الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ومصر، إلا أنهم يزعمون أنهم يعملون على التوسع في أسواق أخرى قريباً." ومع ذلك، فإن نمشي (Namshi)، وهي شركة تجارة إلكترونية أخرى استحوذت عليها نون دوت كوم مؤخراً، تقدم للعراق خيارات دفع متعددة، بما في ذلك الدفع نقداً عند التسليم. نحن غير متأكدين مما إذا كان الاستحواذ سيُمَكنُ نون دوت كوم من الشحن إلى العراق أو سيعطل نمشي من الشحن إليه. 


الاستنتاج

الاقتصاد العالمي مترابط أكثر مما كان عليه في أي وقت مضى. يجب أن يتفهم العراق الحاجة إلى تسهيل حركة البضائع واتخاذ بعض الخطوات الجادة للارتباط الكامل بالعالم من خلال بناء وصيانة بنية تحتية سليمة وتحديد إجراءات وأنظمة واضحة لمواجهة تحديات خدمات الشحن في العراق. من ناحية أخرى، فإن الحاجة إلى المنتجات المستوردة، وزيادة توجهات التسوق عبر الإنترنت، وشريحة العملاء الشباب البارعون في أمور التكنولوجيا دفعت جميع رواد الأعمال العراقيين إلى إيجاد حلول يمكن أن تكون بمثابة نموذج للتغلب على هذه المشكلات، وتحويل هذا التحدي إلى فرصة سانحةٍ للاغتنام. تدخل حلول التكنولوجيا المالية مثل أوردري السوق كجزء من موجة روح المبادرة التي غيرت البلاد على مدار السنوات القليلة الماضية. هذه الشركات، بقيادة مبادرات القطاع الخاص الناشئة والمتنامية باستمرار، تبذل قصارى جهدها لربط العراق ببقية العالم من خلال المساعدة في حركة البضائع إلى البلاد. يمكن لرجال الأعمال العراقيين أن يكونوا مكسباً هائلا للشركات الدولية التي تتطلع إلى توسيع عملياتها إلى السوق العراقية؛ لأنهم لديهم المرونة والتفاني، ويدركون جيداً السياق المحلي، ولديهم مجموعة أدوات للعمل في هذا السوق.




More Arabic Articles

تمكين المَرأة في الإقتصاد الرقمي العراقي: مُبادرة "She Codes Too"

غدت المعرفة بالأمور الرقمية أمراً لا بد منه لسلك دروب عالمنا الحديث في مجتمعنا سريع التطوّر اليوم. ومع تَزايد اعتماد مُجتمعاتنا واقتصاداتنا... read more

مقابلة مع الدكتور حسن الخطيب

الدكتور الخطيب هو المستشار الاستراتيجي لرئيس وزراء العراق في كل شيء رقمي. وهو منصب يرفده بعقودٍ من الخبرة في مجال التكنولوجيا في... read more

استثمر في كوردستان: نظرة عامة على القطاعات ذات الأولوية

إقليم كوردستان العراق هو إقليمٌ يتمتع بالحكم الذاتي يقع في الجزء الشمالي من العراق، وله موقع استراتيجي مهمٌ عند التقاء أوروبا وآسيا... read more

تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في إقليم كوردستان: نظرة عامة على المهارات الرقمية والقطاعات وفرص الاستثمار

يقع إقليم كوردستان في شمال العراق ويضم أربع محافظات هي دهوك، والسليمانية، وحلبجة، وأربيل، والأخيرة هي عاصمته. تمتد هذه المحافظات مجتمعة على... read more

تحول التعليم الجامعي في كوردستان العراق: اجتياز العقبات وتبني التغيير الإيجابي

واجه التعليم في إقليم كوردستان العراق العديد من التحديات في الماضي، لكنه أيضاً شهد تحولاً مطرداً في السنوات الأخيرة. لقد أدرك الإقليم... read more

أدوار جامعية رائدة: الجامعة الأمريكية في السليمانية تقود المشاركة الجامعية في تطور ريادة الأعمال في العراق

في عصر التقدم التكنولوجي السريع والتواصل العالمي، عادة ما يتردد على أسماعنا مصطلح "ريادة الأعمال" في قاعات التجارة والأعمال، هذه الكلمة الرنّانة،... read more

Posted in on Sunday, 12th February, 2023