صفوة سالم
محررة تنفيذية، بزنس لاندسكيب
لقد كان تطوير القطاع الخاص العراقي موطن تركيز بيئة الأعمال على مدى عدة سنوات؛ حيث تعددت المحاولات والمبادرات والمشاريع والدعم والتمويل لتعزيز نمو القطاع الخاص في جوانب شتى. تحاول هذه الجهود بشكل أساسي سد فجوة المهارات بين القوى العاملة البشرية وسوق العمل حيث يبدو أن هذه واحدة من أكثر المشاكل الحرجة التي تعيق نمو القطاع الخاص. لذا توجه العديد من منظمات دعم الأعمال وريادة الأعمال، ومعاهد التدريب، والمعاهد التعليمية جهودها لمعالجة هذه الفجوة.
من خلال الأبحاث والدراسات الاستقصائية الإضافية التي أجراها ذوى الشأن في بيئة الأعمال، بما في ذلك بحث أجرته كابيتا عام 2021 بعنوان "واقع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في العراق: انعكاس بيئة الأعمال والتحديات والفرص" والتي أشارت فيه إلى أن سبب هذه الفجوة بين القطاع الخاص والقوى العاملة هو تراكم عدة عوامل مختلفة، بما في ذلك ضعف نظام التعليم والعقلية الاتكالية والقصور في الاستثمار الذاتي، بالإضافة إلى الإحجام عن التغيير وحاجز اللغة الإنجليزية ونقص المهارات الشخصية فضلاً عن المهارات التقنية المتقدمة وهجرة أصحاب العقول، وغيرها من العوامل.
وعلى الرغم من صحة ما ذُكر أعلاه، إلا أن هناك جانباً آخر لهذه المسألة.
يشكو القطاع الخاص العراقي من تداعيات عديدة تعيق القوى العاملة من الانضمام لسوق العمل. لا ينبغي استبعاد هذا الوجه الآخر من العملة، فمعالجة هذه المشكلة يتطلب نفس القدر من الاهتمام الذي تتطلبه مشكلة الموارد البشرية. في حين أن هذه المعوقات تندرج تحت العديد من الموضوعات المتباينة التي يمكن أن تتراوح بين ظروف العمل والأجور وحقوق العمل والشفافية والثقافة، يبقى أحد أكثر المواضيع التي غالباً ما يتم تجاهله هو السلامة النفسية لمكان العمل وأهميته في رفاهية كلا من الموظفين والمؤسسات.
وإنه لمن الضروري أن نتذكر أن سكان العراق يافعين للغاية. ووفقاً لإحصاءات عام 2021 للجهاز المركزي للإحصاء في العراق، فإن حوالي 40٪من السكان هم تحت سن الـ15 عاماً. في حين أن 20% تتراوح أعمارهم بين 15-24، وهي الفئة التي تمثل شباب البلاد، و20% أخرى تقع بين أعمار 25-34. هذا يعني أن القوى العاملة الحالية تتكون في الغالب من جيل الألفية الشباب، في حين أن حديثي التخرج والقوى العاملة الجديدة التي انضمت مؤخراً إلى سوق العمل هم من الجيل زد (Generation Z).
بغض النظر عن الاختلافات بين هذين الجيلين، الا أن لديهما العديد من أوجه التشابه عندما يتعلق الأمر بتفضيلات العمل. ووفقاً لاستطلاع قامت به ديلويت غلوبال في عام 2022 حول جيل الألفية والجيل زد، وجُد ان السبب الرئيسي للبقاء في المؤسسة هو التوازن الجيد بين العمل والحياة الشخصية بنسبة 32٪ للجيل زد و39٪ لجيل الألفية، تليها فرص التعلم والتطوير بنسبة 29٪ لكليهما. اما المزايا المالية فقد احتلت المرتبة الثالثة بنسبة 24٪ و27٪ لكل من الجيل زد وجيل الألفية على التوالي في حين احتلت ثقافة العمل الإيجابية المرتبة الرابعة بنسبة 24٪ لكلا الجيلين، والتي تتضمن الأمان والشعور بالانتماء والتقدير. تشير الأرقام المذكورة أعلاه إلى أن القوى العاملة الحالية والقادمة تولي قدراً كبيراً من الأهمية لمزايا أخرى مثل بيئة العمل والثقافة وفرص النمو أكثر من الرواتب.
لذا على المؤسسات مراعاة خلق بيئة عمل أفضل، وأن تسعى لبناء جو آمن نفسياً لدعم رفاهية الموظفين. وهذا بالتالي يؤدي إلى إنتاجية أعلى وأداء أفضل ويزيد من معدل الاحتفاظ بالمواهب اللامعة.
ولنفهم كيف باستطاعة المؤسسات خلق بيئة عمل أفضل يتوفر فيها الأمان النفسي، نحتاج أولا إلى معرفة ماذا تعني السلامة النفسية تحديداً؟ دُرِسَت السلامة النفسية لأول مرة في أواخر الستينيات، على غرار العديد من الموضوعات السلوكية التنظيمية والنفسية الأخرى. عرّف الباحثان وارين بنيس وإدغار شين مفهوم السلامة النفسية في عام 1965 على أنها تقليل المخاطر الشخصية في بحثهما "التغيير الشخصي والمؤسسي من خلال أساليب المجموعة: المقاربة المختبرية".
لاحقاً في العام 1990، عرّف البروفيسور ويليام خان نظرية تفاعل الموظف، تقوم هذه النظرية على انخراط الموظفين والتعبير عن وتوظيف ذواتهم أو الانسحاب والدفاع عن أنفسهم والظروف النفسية المرتبطة بذلك والتي تتلخص بالمغزى والامان والجاهزية النفسية أو العاطفية.
في عام 1999، أصبح مصطلح "السلامة النفسية" شائعاً بفضل عمل أستاذة القيادة والإدارة في جامعة هارفارد، أيمي سي إدموندسون، التي طورت عمل أولئك الذين سبقوها وعرّفت السلامة النفسية في بحثها المعنون "السلامة النفسية وسلوك التعلم في فرق العمل" على أنها "اعتقاد الشخص أنه لن يُعاقب أو يُذَل بسبب التعبير عن أيه أفكار أو طرح أسئلة أو مخاوف أو أخطاء، وبأنه يمكن للفريق تحمل المخاطر الشخصية (على المستويين الاجتماعي والمهني) بشكل آمن. البحث درس 51 فريقاً في شركات التصنيع ووجُد أن الفرق ذات الأداء العالي هم الذين ارتكبوا أخطاءً أكثر. وفي عام 2012، نفذت شركة غوغل مشروعها "أرسطو" الذي درس العديد من الفرق المختلفة التي تعمل في غوغل لمحاولة فهم العوامل الكامنة وراء الفرق الناجحة. واخُتتم المشروع بخمسة عناصر تم ترتيبها حسب الأهمية كان أولها الأمان النفسي، يليه الاعتمادية والبنية والوضوح والمغزى والتأثير.
هناك العديد من مكونات السلامة النفسية، ولكن بشكل أساسي هي بيئة مبنية على الثقة والاحترام والتواصل الصريح والشفافية والشمول، حيث يشعر الناس أنه باماكنهم تحمل المخاطر وارتكاب الأخطاء والشعور بأنهم ذوي أهمية وموضع تقدير في مكان عملهم.
إليك بعض الأسرار التي هي في الواقع ليست بأسرار على الإطلاق لزيادة السلامة النفسية في مكان العمل:
- تشجيع الشمول والمصداقية:
نقضي معظم يومنا في العمل، حيث استحوذت وظائفنا على جزء كبير من حياتنا لذا من المهم أن تسمح لنا هذه الوظائف بأن نتصرف على سجايانا دون التظاهر بلعب دور لا ينسجم مع ذواتنا الحقيقة. لذا على المؤسسات، بدأَ بقادتها، أن تكون نموذجاً للمصداقية في طريقة قيادتهم وتفاعلهم مع الآخرين.
إضافة إلى ذلك، تعمل المؤسسات عموماً في فرق متنوعة؛ من المهم الاحتفاء بهذا التنوع وعدم التمييز ضده والحرص على شعور الجميع بأنهم مشمولون. قد يعني هذا التخلي عن تحيزاتنا وأحكامنا، وتعلم الإصغاء إلى الآخرين بانتباه أكبر وتقبل اختلافاتنا. قد يكون هذا تمريناً صعباً في البداية، ولكن الاعتراف بأحكامنا المسبقة وتحيزاتنا هو خطوة في الاتجاه الصحيح، حيث سيعزز هذا من الشعور بالانتماء إلى المؤسسة ويساهم بالتقليل من الروح المعنوية السلبية في نهاية المطاف.
- تقبل الأخطاء:
الأخطاء والتداعيات هي مجرد نتيجة عرضية طبيعية لأي وظيفة أو عملية. حيث أنه من غير المحتمل تجنبها تماماً، ولا حتى مع الخبراء أو من يتحلى بأعلى مستوى من المهنية، ولا يمكن تجنبها حتى من الإدارة العليا. لذا فإن إعادة صياغة الأخطاء على أنها فرص للتعلم واغتنام الفرص لتحسين وتطوير العمل بدلاً من معاقبة مرتكبيها من شأنه أن يشجع الموظفين على تحمل المزيد من المخاطر وأن يكونوا أكثر ابتكاراً، بدلاً من خلق ثقافة الخوف والقلق التي تُشعر الموظفين بعدم الأمان وتجعلهم يتهربون من تحمل المسؤولية أو تجربة أي شيء جديد. تقع هذه المسؤولية أيضاً على عاتق الإدارة للاعتراف بأنهم معرضون لارتكاب الأخطاء وتقبلها، مما يسمح للمؤسسة باتباع خطواتهم لفعل الشيء ذاته.
- تشجيع جميع الأصوات:
إنّ على المؤسسات خلق مساحة منفتحة أكثر لفِرَقِها للمشاركة وفسح المجال أمام الأشخاص ليكونوا طرفاً في الحوار. ومن المهم تمكين الناس من القيام بدور فعال في الحوار وعملية صنع القرار والحرص على أنهم يتم الإصغاء إليهم. وأيضاً تشجيع تلك الأصوات حتى عندما تتحدى أفكاراً أو قرارات معينة أو عندما تقترح إجراء بعض التغييرات. إن تبني عقلية فضولية وطلب مساهمات الافراد وتقدير هذه المساهمات لن يثري المحادثة فحسب، بل سيضيف المزيد من المنظور إليها، كما أنه سيعزز التعاون بين أعضاء الفريق لتحقيق أداء أفضل. بالإضافة إلى ذلك سيُؤدي هذا إلى تعزيز الروح المعنوية للفريق لأنهم سيشعرون بأنهم ذو أهمية وموضع تقدير وبأن مساهماتهم مهمة، وسيحقق شعورهم بالغاية داخل المؤسسة.
- ممارسة التعاطف:
يحتم علينا عالمنا سريع التغير اليوم العديد من الصراعات الشخصية التي علينا التعامل معها على أساس يومي، هذا فضلاً عن حالة العالم المتقلبة، من التعافي من الوباء إلى الوقوع على أبواب الركود المحتمل. النظام الحالي ليس مصمماً ليدعم سلامة رفاهية الافراد. إلى جانب ذلك ربما تم تجريدنا من العديد من الفضائل الإنسانية التي جعلتنا نقيم الأفراد على أساس أدوارهم وليس على أساس قيمتهم كأفراد. لذا يتعين على القادة والمديرين ممارسة التعاطف ومحاولة فهم موظفيهم والتحقق من سلامتهم باستمرار ومعالجة مخاوفهم وتقديم الدعم حيثما يكون ذلك ممكنا.
تخلق السلامة النفسية العالية مؤسسة قابلة للتعلم مما يجعل دافع الموظف مرتفعاً، ومما يساهم برفع السلامة النفسية للمؤسسة أيضاً. وهذا بدوره سيساعد المؤسسة على التطور باستمرار.
لا نعُدُ كل ما سبق وصفةً سرية لتحسين السلامة النفسية للمؤسسة، ولكننا مع ذلك قد نهمل تلك الممارسات الضرورية الواضحة أو نقلل من تأثيرها على سلامة الموظفين وتأثيرها على الحفاظ على الموظفين وكفاءة أدائهم والفريق بشكل عام. بصرف النظر عن تلك الفوائد التي لا حصر لها والتي لها تأثير مباشر على أداء المؤسسة، من المهم أن تتذكر أنه في ملخص الموضوع بأن ما يهم هم الأفراد. نحن نعيش في مجتمع حديث معقد يدافع عن ثقافة العمل المفرط ويمجد إدمان العمل وهو مصمم لتحقيق الربح وغض الطرف عن الجوانب السلبية لذلك، مما يجعل من السهل نسيان ما يهم حقاً في الحياة، وهو سلامة الأفراد ورفاهيتهم.