تشكيل الغد: إعداد الشباب العراقي لسوق العمل
عبد السلام مدنى
المدير التنفيذي لمؤسسة روانگە (Rwanga Foundation)
"الأمة التي لا تفكر بالشباب هي أُمةٌ تخطط للانتحار." لا شك بأن الشباب هم قادة المستقبل، وإنَّ عدم إشراكهم واحترام دورهم في بناء الغد سيرسم مستقبلاً بملامح تفتقر لمساهمتهم الجوهرية. ولذلك، سوف يفتقرون إلى المعرفة اللازمة لقيادة المستقبل. لا بُدّ أن يكون للشباب مشاركةٌ فاعلةٌ في عملية البناء. لقد تحول العراق من اقتصاد اشتراكي قائم على الحزب الواحد إلى شكل من أشكال التعددية وهو يسير الآن على مسار أقرب إلى تعريف الرأسمالية. لكن النظام بقي يعمل وفق العقلية الاشتراكية وقوانين ما قبل عام 2003. نعلم أن الواقع قد تغير بالفعل، لكن توقعات الناس من الحكومة ما زالت كما هي، وما تزال حكومة البلاد في عين شعبها هي مصدر التوظيف للشباب والخريجين.
الفجوة بين نظام التعليم العراقي ومتطلبات سوق العمل:
تُخَرِجُ الجامعات موظفين فقط، لا رواد أعمال! وهناك أعطالٌ في المحركات التي من شأنها تحفيز السوق. هل هناك فجوة بين سوق العمل ومهارات الشباب؟ نعم، وهذه حقيقة لا يختلف فيها اثنان. إن متطلبات سوق العمل العالمية مُتَغَيرةٌ باستمرار. ووفقا لتقرير دافوس (Davos) لعام 2016، الذي قدم مصطلح "الثورة الصناعية الرابعة"، فإن المجتمعات التي تفشل في احتضان التكنولوجيا سوف تعاني من الفقر في السنوات المائة المقبلة. وعلى غرار ما حدث خلال الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، فإن البلدان التي لم فاتها ركب هذه الثورة منذ فجرها غدت فقيرة في السنوات اللاحقة لأنها لم تشارك في عملية صنع القرار العالمي. عامِلٌ آخر يطرح تحديات كبيرة هو عجز المنهج التعليمي الحالي على تحضير وتأهيلهم لدخول الشباب سوق العمل الحالي. أمَّا على المستوى العالمي، يذكر تقرير دافوس آنِفُ الذكرِ أن 65% من طلاب المدارس الابتدائية في عام 2016 سوف يشاركون في سوق العمل ويمارسون مجموعة من الوظائف التي لا نعرف سوى القليل عن طبيعتها وخصائصها.
ولا تزال جامعاتنا ومناهجنا التعليمية تنتج خريجين يتمتعون بعقلية موظفية على أساس افتراض أننا ننتج أفراداً لوظائف مكتبية. ونتيجة لذلك، تراجع التعليم المهني تراجعاً كبيراً، ولم تركز المناهج الدراسية على ريادة الأعمال أو خلق فرص العمل. لم يتم تصميم المناهج الدراسية لتزويد الطلاب بمهارات التفكير النقدي والتفكير الإبداعي وغيرها من المهارات التحليلية وحل المشكلات، لأنها تعتمد على النظرية وليس على المشاريع. وفي أفضل السيناريوهات، قد يكتسب الطلاب المعرفة دون اكتساب المهارات والخبرة. باختصار، لم يتم تصميم نظام التعليم لإعداد الطلاب للقطاع الخاص. إن بيئة القطاع الخاص عموماً غير مستعدة لجذب رواد الأعمال، ناهيك عن الازدهار.
يتمتع سوق العمل بمواصفات خاصة، ومتطلبات متعددة، ومجموعات مهارات محددة مطلوبة لمسارات وظيفية محددة. وهي تغطي مجموعة واسعة من المهارات، مثل مهارات الكمبيوتر، وإتقان اللغة الإنجليزية، ومهارات الاتصال، وعقلية ريادة الأعمال، والتفكير النقدي، والتسويق، وحل المشاكل حلاً إبداعياً. حتى في مجال إدارة الأعمال، يفشل المنهج في إعداد الطلاب لسوق العمل الديناميكي.
علاوة على ذلك، يفتقر العراق إلى الآليات المجتمعية التي تقدم القروض أو المنح. حالياً، تأتي القروض والمنح من مصادر خارجية، ومؤخراً بدأ البنك المركزي العراقي في تنفيذ الأساليب الكلاسيكية للدعم. إنها بداية جيدة، ولكن مع وجود العديد من المستويات الصعبة لأن بيئة الاعمال، بما في ذلك الإطار القانوني، ليس جاهزًا وغير داعم. إن القيادة الحالية، المسؤولة عن خلق القيادات الشابة في القرن الحادي والعشرين، لا تزال تتمتع بعقلية القرن العشرين. ليس لدينا نظام مصرفي يقدم القروض أو يساعد الشركات على استرداد قروضها، بالإضافة إلى عدم وجود آليات لتحديد الشركات الصغيرة والمتوسطة المؤهلة للحصول على القروض.
مؤشرات مثيرة للقلق لسوق العمل الحالي
هناك القليل من العلامات الواضحة التي تشير إلى أن بعض الإجراءات تحيدنا عن الطريق الصحيح، وتشمل هذه:
العوائق القانونية التي تعيق احتياجات سوق العمل الحديثة:
الحكومة غير قادرة على توظيف الخريجين، أو تحفيز سوق العمل، أو وضع سياسات وضمانات واضحة للقطاع الخاص يستطيع الشباب من خلالها البحث عن فرص عمل آمنة. عندما يتعلق الأمر بالضمان الاجتماعي، على سبيل المثال، فإن قانون العمل والضمان الاجتماعي الذي صدر مؤخرًا يتطلب من المنظمات غير الحكومية غير الربحية، التي تستوعب شريحة كبيرة من الشباب من خلال تطوير المهارات وتوفير فرص العمل، دفع 12٪ من رواتب الموظفين الضمان الاجتماعي لكل موظف. تبلغ نسبة الضمان الاجتماعي 17%، يدفعها الموظف 5%، والمؤسسة 12%. لكن بالنسبة لشركات القطاع الخاص فإن ذلك أمر مفهوم لأنها كيانات هادفة للربح، وأن هذا القانون لا يتوافق مع طبيعة المنظمات غير الحكومية. ويبدو أن صناع القرار لا يدركون هذه العواقب، مما سيجبر المنظمات غير الحكومية على تعليق عملياتها أو تقديم تقارير مزيفة. على سبيل المثال، قد تلجأ المؤسسات إلى خصم كامل الـ 17% مباشرة من رواتب الموظفين. وهذا يسلط الضوء على أن النظام أو العقلية الحالية التي تصوغ وتتخذ القرارات غير مدركة للأفكار والمؤسسات الجديدة التي ظهرت والتغيرات التي طرأت على العراق.
العبء على الموازنة المالية العراقية:
أدى العدد المتزايد من الخريجين الشباب إلى تزايد الطلب على خلق فرص عمل مستدامة. كما أدى هذا المطلب إلى اضطرابات اجتماعية وأشعل الاحتجاجات، كما شهدنا عام 2019، رغم أنها لم تكن المرة الأولى التي يتفجر فيها الغضب الشعبي من نقص الخدمات والوظائف إلى احتجاجات. إلا ان استجابة الحكومة ظلت كما هي: تهدئة الجمهور من خلال خلق المزيد من فرص العمل في القطاع العام، وبالتالي زيادة العبء على الميزانية المالية. ومن بين المؤشرات الأخرى، خُصِصَ ما يقارب 1.5% لوزارة التعليم العالي، و5.9% لوزارة التربية، و3.74% لقوات الحشد الشعبي في الموازنة المالية 2023. ولذا فمن الواضح أن التركيز يتجه نحو الأمن العسكري أكثر من القطاعات الأخرى. ولسوء الحظ فغالباً ما تُهمل قطاعات مهمة مثل الزراعة التي لديها القدرة على خلق العديد من فرص العمل، إذ تبلغ حصة وزارة الزراعة 0.95% من الموازنة المالية. يستدعي سوء التوزيع هذا تحويل الأولويات نحو تنمية اقتصادية أكثر استدامة وخلق فرص العمل، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال تحسين الإدارة وتنويع موارد البلاد.
الأسباب الجذرية في عجز نظام التعليم أن يواكب السوق
هناك العديد من الجوانب التي لها يدٌ في تسبيب هذا القصور في النظام التعليمي، وهي كما يلي:
فقدان الرؤية البعيدة المدى:
تركز الحكومة الحالية على الاستجابة لحالات الطوارئ ونهج إطفاء الحرائق بدلاً من الرؤية طويلة المدى. نحتاج إلى خطة استراتيجية بعيدة المدى تقف على أساس رؤية واضحة، لأن المنتج النهائي (الطالب) يحتاج إلى أكثر من 12 سنة لدخول الجامعة و16 سنة لدخول سوق العمل. وإلَّا فلن تؤتي العملية التعليمية ثمارها. ولقد افتقرت جميع الحكومات المتعاقبة لمثل هذه الرؤية، ولم تنفذ عمل سابقاتها من الحكومات. لن ينتهي غياب رؤية واضحة للمناهج إلَّا إلى تخبط متبوعٍ بفشل في بناء أساس متين.
أعضاء هيئات التدريس:
دائماً ما تضع الدوَلُ التي تطمح إلى التقدم الطالب، لا المُدَرس، في قلب العملية التعليمية. إذ لا يكون الهدف النهائي: هل أفهَمَ المُدَرِسُ الموضوع؟ يجب أن يكون: هل فَهِمَ الطالب الموضوع؟ هل نمى الطالب مهاراته؟ ما زال المُدَرِسون يتبعون الطرق التقليدية في الشرح والتدريس. وهم غير مواكبين لواقع التعليم العالمي والتغيرات السريعة التي تحدث في مجالات التعليم والقيادة والمعلومات والتكنولوجيا. علاوة على ذلك، فإن الأهداف التعليمية للفصول الدراسية في دليل المُدَرسين تستهدف شرح المادة، التي غدت في عالمنا اليوم -الذي يسنح فيه الوصول إلى كمٍ هائلٍ من المعلومات- أدنى أهمية من الدراية أو المعرفة العملية التي يجب أن ينصب عليها التركيز بدلاً من الأولى. لا بُدَّ أن يؤخذ فهم الطلاب في الاعتبار. ما تزال آليات التقييم والمتابعة تقليدية جداً، والمناهج الدراسية غير مواكبةٍ للمتغيرات. وتفتقر المناهج إلى المناقشات وتبادل الآراء بين الطلاب. بالإضافة إلى ذلك، لم تُسْتَثمر التكنولوجيا حتى الآن استثماراً جيداً لدعم عمليات التعلم والتعليم بشكل عام.
منهجية الامتحان:
يعتمد المنهج التعليمي بأكمله اعتماداً كبيراً على الامتحانات. كلما ارتفعت الدرجة، يُعَدُ الطالب أذكى وأفطن! إن النظام الحالي قائمٌ على التعليم النظري، والدرجات المستحصلة في الامتحان هي المعيار الوحيد، وليس مشاركة الطالب أو الأبحاث التي يقدمها أو المناقشات التي يطرحها. وتعتمد العملية برمتها على الامتحانات والدرجات، بما في ذلك اختيار التخصص الجامعي، بدلاً من مراعاة تفضيلات الطلاب واهتماماتهم ومهاراتهم وكفاءاتهم. من ناحية أخرى، يتبع سوق العمل وتوزيع الوظائف المنهجية ذاتها. ويصبح هذا مشكلة كبيرة لأن سوق العمل يعتمد على نتائج امتحانات الثانوية العامة للسنة الأخيرة، والتي تعد في حد ذاتها وسيلة لقياس قدرة الطلاب على الحفظ. الحفظ، وفقا لهرم تصنيف بلوم (Bloom's Taxonomy Pyramid)، هو الأدنى في الترتيب الهرمي للمهارات المعرفية.
المشكلات التعليمية الخاصة بإقليم كوردستان
يعاني إقليم كوردستان من نقص في عدد المدارس، إذ يجب بناء مئات منها ومئات أخرى بحاجة إلى الترميم. وتعاني مدارس أخرى من قصورٍ في عدد الفصول والمعدات. التعليم المهني مهمل. لا يزال التعليم يتكل على المحاضرات بدلاً من التفاعل والتواصل المتبادل وتبادل الخبرات. يفتقر نظام التعليم إلى البنية التحتية. الوضع أفضل قليلاً في المدارس الخاصة منه في العامة. ومع ذلك، فإن غالبية الطلاب يذهبون إلى المدارس العامة. ولذا تبقى الأولوية لتحسين التعليم العام بدلاً من الاعتماد على التعليم الخاص.
المدارسُ خاصة:
إنَّ نتائج المدارس الخاصة من حيث بيئة التعليم وإتقان اللغة الإنجليزية واكتساب المهارات جيدةٌ، ولكن هذا التباين في الجودة بين الخاص والعام يأتي بتكلفة ألَّا وهي خلق فروقٍ طبقية اجتماعية في النسيج العراقي. إذ تتمتع الأسر ذات الدخل المرتفع بإمكانية الوصول إلى المدارس الجيدة وفرص تنمية المهارات. وكذلك الأمر بالنسبة للطلبة غير المجتهدين الذين يستطيعون بالمال والنفوذ أن يحصلوا على التعليم في المدارس والجامعات الخاصة في التخصصات التي يختارونها. وهذا يمهد الطريق لجزء كبير من المجتمع من أن يرسموا مساراً سلبياً يفتح أبوابه حصراً لمن يمتلك المال والسلطة. وهذا يطرح السؤال: هل هناك عدالة اجتماعية في التعليم؟ وهذه إحدى النقاط التي يجب أن تناقشها النخب السياسية والثقافية والتعليمية. فعندما يقوم نظام التعليم على درجات الامتحانات، ويستطيع من يملك الأدوات المذكورة أعلاه التغلب عليه، فإنه يخلق انقسامات طبقية في المجتمع. وهذه الطبقية هي نقيض العدالة الاجتماعية، ومن نتائجها خلق توترٍ سلبي مستقبلاً.
سوء توزيع سوق العمل:
أن للتعليم المدرسي الخاص تأثير على سوق العمل، فهو يدل على الوضع الاجتماعي والدخل في المستقبل. وفي العصر الزراعي، بقي أولئك الذين ولدوا في أسر منخفضة الدخل ضمن طبقتهم الاجتماعية وكان لديهم سقف ثابت من الطموح. لكن جاءت الثورة الصناعية وغيرت هذه المفاهيم. لأول مرة في التاريخ، أتيحت الفرصة لفرد من عائلة فقيرة يعمل في أحد المصانع لتغيير واقع وضعه الاقتصادي والاجتماعي. والسؤال هنا هو ما إذا كانت هذه الفرص متاحة لجميع العراقيين إذا امتلكوا المهارات اللازمة. حتى هذه اللحظة، هناك تحديات، وليست المهارات المطلب الأول. غالباً ما يكون النفوذ والمحسوبية والانتماءات السياسية والدينية والطائفية هي الكلمات الأساسية لتحديد نجاح الأفراد ومدى السلم الذي يمكنهم تسلقه.
تنمية مهارات الشباب ودمجهم في سوق العمل
هناك مكونان رئيسيان يمكنهما معاً تحقيق هدف تنمية مهارات الشباب والمساعدة في دمجهم في سوق العمل:
صناع القرار:
تقع على عاتق صناع القرار مسؤولية كبيرة في دمج الشباب في سوق العمل بطريقة تعترف بإمكانياتهم وتنميها بفعالية. إنَّه من واجب الشخصيات المؤثرة أن تتبنى موقفا استباقياً وليس رد الفعل. ويتطلب هذا التحول رؤية واضحة المعالم تتناسب مع الاحتياجات المتطورة لكل من الشباب وقطاع العمل. ويجب أيضاً إنشاء نقطة محورية واضحة لتكييف الأنظمة التعليمية والمهنية كي تتلائم مع متطلبات القوى العاملة المعاصرة. ولن يؤدي هذا النهج إلى تمكين الشباب بالمهارات ذات الصلة فحسب، بل سيردم جزءاً الهوة الفاصلة بين الأوساط الأكاديمية والتطبيق العملي.
الشباب العصاميون: